مقالات

كَلِمَةُ وَلِيِّ العَهْدِ فِي مَجْلِسِ الشُّورَى ١٤٤٧هـ: رَسَائِلُ بَيْنَ السُّطُورِ وَخَارِطَةُ طَرِيقٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ

 

بقلم : سالم عبيد ماضي الصويط

شَهِدَ مَجْلِسُ الشُّورَى فِي الرِّيَاضِ مَحَطَّةً سِيَاسِيَّةً وَاقْتِصَادِيَّةً بَارِزَةً حِينَ أَلْقَى صَاحِبُ السُّمُوِّ المَلَكِيِّ الأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ عَبْدِالعَزِيزَ وَلِيُّ العَهْدِ رَئِيسُ مَجْلِسِ الوُزَرَاءِ – حَفِظَهُ اللهُ – الخطاب المَلَكِيَّ السنوي نِيَابَةً عَنْ خَادِمِ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ ـ حفظه الله ورعاه ـ فِي افْتِتَاحِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الدَّوْرَةِ التَّاسِعَةِ. وَالكَلِمَةُ، الَّتِي جَاءَتْ فِي ظَرْفٍ إِقْلِيمِيٍّ وَدَوْلِيٍّ بَالِغِ التَّعْقِيدِ، لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ اسْتِعْرَاضٍ لِلْمُنْجَزَاتِ، بَلْ بَدَتْ أَقْرَبَ إِلَى وَثِيقَةٍ وَطَنِيَّةٍ تَرْسُمُ مَلاَمِحَ المَرْحَلَةِ المُقْبِلَةِ وَتَكْشِفُ عَنْ فَلْسَفَةِ الحُكْمِ وَالإِدَارَةِ فِي المَمْلَكَةِ.

فِي الجَانِبِ الاقْتِصَادِيِّ، شَدَّدَ وَلِيُّ العَهْدِ عَلَى أَنَّ المَمْلَكَةَ لَمْ تَعُدْ أَسِيرَةَ النِّفْطِ، قَائِلاً: «إِسْهَامُ الأَنْشِطَةِ غَيْرِ النِّفْطِيَّةِ فِي النَّاتِجِ المَحَلِّيِّ الإِجْمَالِيِّ تَجَاوَزَ ٥٦٪ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَبَلَغَ النَّاتِجُ المَحَلِّيُّ أَكْثَرَ مِنْ ٤.٥ تِرْلِيُونِ رِيَالٍ». هَذِهِ الأَرْقَامُ تَحْمِلُ بَيْنَ طَيَّاتِهَا دَلاَلاَتٍ أَعْمَقَ مِنْ كَوْنِهَا إِنْجَازاً مَرْحَلِيّاً؛ فَهِيَ تُعَبِّرُ عَنْ تَحَوُّلٍ اِسْتِرَاتِيجِيٍّ يَضَعُ الاقْتِصَادَ السُّعُودِيَّ عَلَى سِكَّةِ الاسْتِدَامَةِ. وَلَكِنَّ الرِّسَالَةَ الأَكْثَرَ لَفْتاً لِلنَّظَرِ جَاءَتْ فِي تَأْكِيدِهِ أَنَّ «البَرَامِجَ الحُكُومِيَّةَ قَابِلَةٌ لِلتَّعْدِيلِ أَوِ الإِلْغَاءِ مَتَى مَا اقْتَضَتِ المَصْلَحَةُ العَامَّةُ». وَهُنَا يَتَّضِحُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الاقْتِصَادِيَّةَ لَيْسَتْ جَامِدَةً، بَلْ إِطَارٌ مُتَحَرِّكٌ يَتَكَيَّفُ مَعَ المُتَغَيِّرَاتِ العَالَمِيَّةِ، مَا يُمْنِحُ المَمْلَكَةَ مِيزَةً نَادِرَةً فِي قُدْرَتِهَا عَلَى المُوَازَنَةِ بَيْنَ الطُّمُوحِ وَالوَاقِعِيَّةِ.

وَعَلَى الصَّعِيدِ الاجْتِمَاعِيِّ، بَرَزَتْ مُؤَشِّرَاتٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ المُوَاطِنَ هُوَ مَحْوَرُ التَّنْمِيَةِ. قَالَ سُمُوُّهُ: «مُعَدَّلاَتُ البِطَالَةِ انْخَفَضَتْ إِلَى مُسْتَوَيَاتٍ قِيَاسِيَّةٍ تَارِيخِيَّةٍ، وَمُشَارَكَةُ المَرْأَةِ فِي سُوقِ العَمَلِ بَلَغَتْ نِسَباً غَيْرَ مَسْبُوقَةٍ». هَذِهِ الكَلِمَاتُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَوْثِيقٍ لإِحْصَاءَاتٍ، بَلْ تَعْبِيرٌ عَنْ فَلْسَفَةٍ تَرَى أَنَّ تَمْكِينَ الإِنْسَانِ هُوَ المُحَرِّكُ الأَوَّلُ لِلتَّنْمِيَةِ المُسْتَدَامَةِ. وَفِي مِلَفِّ الإِسْكَانِ، أَوْضَحَ وَلِيُّ العَهْدِ: «نَعْمَلُ عَلَى ضَبْطِ أَسْعَارِ العَقَارِ وَتَوْفِيرِ خِيَارَاتٍ سَكَنِيَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ تُنَاسِبُ المُوَاطِنِينَ». وَهَذَا التَّصْرِيحُ يَشِير بِأَنَّ القِيَادَةَ تَضَعُ يَدَهَا عَلَى أَحَدِ أَكْثَرِ المَلَفَّاتِ حَسَاسِيَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَمَعِ، وَأَنَّ المُعَالَجَةَ لَنْ تَكُونَ عَبْرَ الوُعُودِ فَقَطْ بَلْ عَبْرَ آليَّاتٍ تَنْظِيمِيَّةٍ وَسِيَاسَاتٍ عَمَلِيَّةٍ.

وَفِي جَانِبِ الصِّنَاعَاتِ العَسْكَرِيَّةِ، أَعْلَنَ سُمُوُّهُ: «نَجَحْنَا فِي رَفْعِ نِسْبَةِ تَوْطِينِ الصِّنَاعَاتِ العَسْكَرِيَّةِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ١٩٪ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ لاَ تَتَجَاوَزُ ٢٪». وَخَلْفَ هَذَا الرَّقْمِ تَكْمُنُ رِسَالَةٌ سِيَادِيَّةٌ بِأَنَّ المَمْلَكَةَ تَتَحَرَّكُ نَحْوَ تَعْزِيزِ اسْتِقْلاَلِ قَرَارِهَا الدِّفَاعِيِّ، مَعَ مَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ مِنْ اِنْعِكَاسَاتٍ اقْتِصَادِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ. أَمَّا فِي قِطَاعِ التِّقْنِيَةِ، فَقَدْ أَكَّدَ أَنَّ «المَمْلَكَةَ تَسْعَى لأَنْ تَكُونَ مَرْكَزاً عَالَمِيّاً لِلذَّكَاءِ الاصْطِنَاعِيِّ وَالتَّقْنِيَّاتِ المُتَقَدِّمَةِ». وَهَذَا يُعَبِّرُ عَنْ إِدْرَاكٍ اِسْتِرَاتِيجِيٍّ بِأَنَّ المُسْتَقْبَلَ الاقْتِصَادِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ سَيَتَشَكَّلُ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ عَبْرَ سِبَاقِ السَّيْطَرَةِ عَلَى التِّقْنِيَّاتِ النَّاشِئَةِ.

وَلَمْ يُغْفِلِ الخِطَابُ التَّحَدِّيَاتِ الإِقْلِيمِيَّةَ. فَقَدْ شَدَّدَ وَلِيُّ العَهْدِ قَائِلاً: «أَرْضُ غَزَّةَ فِلَسْطِينِيَّةٌ، وَحَقُّ أَهْلِهَا ثَابِتٌ لاَ يَنْتَزِعُهُ عُدْوَانٌ». وَجَاءَتِ العِبَارَةُ كَرِسَالَةٍ صَرِيحَةٍ بِأَنَّ مَوْقِفَ المَمْلَكَةِ مِنَ القَضِيَّةِ الفِلَسْطِينِيَّةِ ثَابِتٌ لاَ يَتَغَيَّرُ. كَمَا قَالَ سُمُوُّهُ: «سَخَّرَتِ المَمْلَكَةُ إِمْكَانَاتِهَا لِدَعْمِ قَطَرَ ضِدَّ الاِعْتِدَاءَاتِ». وَهُنَا تَكْمُنُ رِسَالَةٌ أُخْرَى بِأَنَّ التَّضَامُنَ الخَلِيجِيَّ لَيْسَ خِيَاراً تَكْتِيكِيّاً، بَلْ اِسْتِرَاتِيجِيَّةً دَائِمَةً.

وَلَمْ تَكُنْ إِشَادَةُ وَلِيِّ العَهْدِ بِدَوْرِ مَجْلِسِ الشُّورَى مُجَرَّدَ تَحِيَّةٍ بُرُوتُوكُولِيَّةٍ، بَلْ إِقْرَاراً عَمَلِيّاً بِأَهَمِّيَّةِ تَكَامُلِ السُّلُطَاتِ. قَالَ سُمُوُّهُ: «نُشِيدُ بِمَا قَدَّمَهُ مَجْلِسُ الشُّورَى خِلاَلَ السَّنَةِ الأُولَى مِنْ دَوْرَتِهِ التَّاسِعَةِ، وَنُؤَكِّدُ أَهَمِّيَّةَ اسْتِمْرَارِ تَكَامُلِ الأَدْوَارِ بَيْنَ السُّلُطَاتِ لِتَحْقِيقِ مُسْتَهْدَفَاتِ رُؤْيَةِ المَمْلَكَةِ ٢٠٣٠». وَهَذِهِ العِبَارَةُ تَكْشِفُ عَنْ رُؤْيَةٍ تَرَى أَنَّ التَّنْمِيَةَ لَيْسَتْ مَهَمَّةَ السُّلْطَةِ التَّنْفِيذِيَّةِ وَحْدَهَا، بَلْ ثَمَرَةُ حِوَارٍ وَمُسَاءَلَةٍ وَتَكَامُلٍ مُؤَسَّسِيٍّ.

وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الكَلِمَةِ بِعُمْقٍ، يُمْكِنُ تَلَمُّسُ ثَلاَثِ رَسَائِلَ رَئِيسِيَّةٍ: رِسَالَةُ طُمَأْنَةٍ دَاخِلِيَّةٍ تُؤَكِّدُ أَنَّ المُنْجَزَاتِ الاقْتِصَادِيَّةَ وَالاجْتِمَاعِيَّةَ لَمْ تَعُدْ وُعُوداً مُؤَجَّلَةً بَلْ وَاقِعاً مَلْمُوساً، وَرِسَالَةٌ سِيَاسِيَّةٌ إِقْلِيمِيَّةٌ تُثْبِتُ أَنَّ المَمْلَكَةَ مُتَمَسِّكَةٌ بِثَوَابِتِهَا فِي القَضَايَا العَرَبِيَّةِ، وَفِي الوَقْتِ نَفْسِهِ تُعَزِّزُ التَّضَامُنَ الخَلِيجِيَّ كَخِيَارٍ اِسْتِرَاتِيجِيٍّ، وَرِسَالَةٌ مُسْتَقْبَلِيَّةٌ تُوَضِّحُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الاقْتِصَادِيَّةَ وَالتَّنْمَوِيَّةَ قَابِلَةٌ لِلتَّعْدِيلِ وَفْقاً لِلْمَصْلَحَةِ الوَطَنِيَّةِ، مَا يَعْنِي أَنَّ الدَّوْلَةَ لاَ تُدَارُ بِعَقْلِيَّةٍ جَامِدَةٍ بَلْ بِعَقْلِيَّةٍ مَرِنَةٍ تَسْتَجِيبُ لِلتَّحَدِّيَاتِ.

وَمَا بَيْنَ السُّطُورِ، يَتَّضِحُ أَنَّ المَمْلَكَةَ تَدْخُلُ مَرْحَلَةً جَدِيدَةً مِنَ النُّضْجِ فِي مَسِيرَتِهَا الإِصْلاَحِيَّةِ؛ مَرْحَلَةَ الاِنْتِقَالِ مِنَ الطُّمُوحِ إِلَى الإِنْجَازِ، وَمِنَ الوُعُودِ إِلَى الحَقَائِقِ. الكَلِمَةُ عَكَسَتْ ثِقَةَ القِيَادَةِ فِي مَا تَحَقَّقَ، وَوَعْيَهَا فِي الوَقْتِ ذَاتِهِ بِأَنَّ المُسْتَقْبَلَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُصْنَعَ إِلاَّ بِالمَرُونَةِ وَالاِسْتِعْدَادِ الدَّائِمِ لِلْمُرَاجَعَةِ. وَبِهَذَا المَعْنَى، لَمْ يَكُنْ خِطَابُ وَلِيِّ العَهْدِ مُجَرَّدَ إِعْلاَنٍ عَنْ حَصَادِ عَامٍ مَضَى، بَلْ خَارِطَةَ طَرِيقٍ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا اِلْتِزَاماً عَمِيقاً بِمُوَاصَلَةِ البِنَاءِ، وَتَأْكِيداً عَلَى أَنَّ المَمْلَكَةَ تَتَحَرَّكُ بِثِقَةٍ نَحْوَ أَنْ تَكُونَ مَرْكَزَ ثِقْلٍ إِقْلِيمِيٍّ وَدَوْلِيٍّ، مَعَ بَقَاءِ البُوصْلَةِ ثَابِتَةً بِاتِّجَاهِ مَصْلَحَةِ الوطن والمواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى